-
"القائد" داخل فقاعة.. تشريح ذهنية الأسد في ضوء التسريبات
لم تكن التسريبات التي ظهر فيها بشار الأسد مجرد مقاطع عابرة أو لحظات التقطتها كاميرا خفية، بل كانت انكشافاً جديداً لما هو أعمق من الصورة واللغة والحركة. فالرجل لم يُظهر في تلك الدقائق إلا البنية النفسية والسياسية التي حكمت سوريا طوال عقود، البنية نفسها التي أنتجت الدمار والتهجير والقتل الجماعي وغياب الدولة. ومع ذلك، فإن ما بدا للوهلة الأولى مادة صادمة لم يكن في حقيقة الأمر سوى انعكاس باهت لواقع يعرفه السوريون جيداً: أن السلطة التي تقتل شعبها لا تملك أي قدرة على الإحساس به، وأن الحاكم الذي يرى في الخراب خلفية ديكورية لصورته الشخصية عاجز معرفياً ونفسياً عن إدراك معنى الوطن.
فالضحكات التي ظهرت في المقاطع لم تكن مجرد انفعال عابر، بل تجسيد لنمط نفسي ثابت يُعرف في علم النفس السياسي بـ الانفصال الوجداني؛ وهو حالة يتجرد فيها صاحب السلطة المطلقة من القدرة على تمثّل الألم أو تقدير قيمة الإنسان. في هذا السياق، لا يعود الضحك فوق الركام فعلاً مستهجناً، بل يصبح امتداداً طبيعياً لشخصية اعتادت النظر إلى الشعب ككتلة غامضة يمكن إدارتها بالأوامر، لا كمجتمع يمتلك ذاكرة وأحلاماً وحقاً في الحياة. هذا النوع من الانفصال هو ما جعل هتلر، في أيامه الأخيرة، يراجع الخرائط العسكرية وكأن الجيش الألماني لا يزال قادراً على الانتصار، بينما كانت المدن تحترق. وهو ما جعل ستالين يقف على مسافة عاطفية باردة من ملايين الضحايا الذين ماتوا في مجاعاته، وكأن الموت نتيجة جانبية لا تستحق التفكر.
المفارقة أن بشار الأسد، في تلك اللحظات التي ظن أنها خاصة، كان يعرض للعالم ما رفض الاعتراف به طوال سنوات: أنه يعيش في فقاعة مغلقة، تُعاد فيها صياغة الواقع وفق احتياجات بقاء السلطة، لا وفق الحقيقة. هذا النمط من التفكير يشبه ما يصفه علماء النفس بـ الاستتار الإدراكي، وهو حالة يخلق فيها العقل نسخته الخاصة من العالم ليتهرب من إدراك حجم الخراب الذي تسبب به. في هذه الفقاعة، يصبح الشعب مجرد خلفية صوتية، وتتحول المدن المدمّرة إلى نقاط على خريطة، ويتحول الألم الجمعي إلى رقم في موجز إعلامي.
أما حضور المستشارة، بنبرتها الباردة واستخفافها المَرَضي، فلم يكن سوى وجه آخر للمنظومة ذاتها. فالأنظمة الاستبدادية تنتج حول الحاكم طبقة كاملة تشاركه التركيبة النفسية: نبرة فوقية، يقين مسمم، لغة تنمّ عن احتقار مضمر للناس. لقد بدت كلماتها كأنها نسخة مصغّرة من خطابات غوبلز في ألمانيا النازية، حيث تُستخدم اللغة كأداة لطمس الجريمة وتحويل الألم إلى مادة تزيينية. هذه النبرة ليست عرضاً جانبياً، بل هي لبّ النظام: القدرة على تحويل الكارثة إلى مشهد عابر، وعلى تحويل معاناة الملايين إلى “سردية” يمكن التحكم في شكلها ومضمونها.
وإذا كان هناك من يعتقد أن هذه التسريبات قد “هزّت صورة الأسد”، فإن ذلك الاعتقاد ينطوي على قدر كبير من السذاجة. فالصورة التي يحاول النظام تجميلها منذ سنوات لم تكن في حاجة إلى من يهزّها؛ هي منهارة بفعل الواقع قبل أن تنهار بفعل الفيديوهات. لم يكن هتلر بحاجة إلى تسريب كي يظهر قبح مشروعه، ولا كان ستالين بحاجة إلى تسجيل صوتي كي يرى العالم مرضه السياسي، ولا كان بول بوت بحاجة إلى فيديو سري كي يدرك العالم حجم الجنون الذي حكم كمبوديا. القادة الذين تتجاوز اعتلالاتهم النفسية حدود الممكن الأخلاقي لا يُعرفون من تفاصيل ثانوية تظهر بالصدفة، بل من الأثر الكارثي الذي يتركونه على شعوبهم.
إن النظام السوري، في بنيته العميقة، يشبه ما يسميه علماء الاجتماع بـ الدولة–الوهم؛ دولةٍ تتحول فيها السلطة إلى خشبة مسرح، والحاكم إلى ممثل يعتقد أن الضوء مسلَّط عليه وحده، وأن الجمهور غير قادر على رؤية الكواليس. وهذه الظاهرة ليست جديدة: ففي الأيام الأخيرة للرايخ الثالث، كان هتلر يتصرف كما لو أنه لا يزال يملك زمام العالم؛ وفي ذروة سلطة ستالين، كان الرجل يظن أن الدولة آلة يمكنها إعادة تشكيل المجتمع بالقوة وحدها؛ وفي كمبوديا، كان بول بوت مقتنعاً بأنه يصنع “الإنسان الجديد” بينما كان يقود البلاد إلى الإبادة. وفي دمشق، تتكرر الصيغة نفسها: سلطة تحيا داخل عالم مغلق، تنكر الواقع، وتعتقد أن سوريا ككيان سياسي يمكن أن تُختزل في إرادة رجل واحد.
هنا تكمن خطورة هذه المنظومات: أن المرض النفسي فيها يصبح جزءاً من بنية الدولة، لا سلوكاً فردياً. وحين يفقد الحاكم القدرة على الإحساس الجماعي، تتشكل في محيطه شبكة كاملة من الأشخاص الذين يتبنون اللغة نفسها، المنطق نفسه، الإيماءات نفسها. وهكذا، يتضاعف القبح: ليس لأن الحاكم مريض، بل لأن المرض يتحول إلى ثقافة سياسية. وهذا ما يجعل المقاطع المسرّبة أقل بكثير من جوهر الحقيقة: فهي مجرد نافذة صغيرة على بنية مظلمة، لا على حالة طارئة.
السوريون لم يتفاجأوا بما رأوه؛ فالدهشة تفترض وجود توقعات إيجابية ولو ضئيلة، بينما لم يكن أحد ينتظر من هذه السلطة سوى مزيد من الإنكار. السوري الذي عاش تحت البراميل، وشهد الجامعات تُفرغ من طلابها، والمنازل تُهدم فوق ساكنيها، والأحياء تُقتلع من جذورها، لا يمكن أن يتفاجأ من ضحكة أو تعليق. فالقبح الحقيقي لم يكن في المقاطع، بل في السنين التي سبقتها، في السجون والمنافي والمقابر الجماعية، في سياسات التجويع، في هندسة الخوف، في تحويل الأمن إلى دين يومي.
ومهما حاول النظام تقزيم ما ظهر في تلك المقاطع، ستظل الحقيقة أكبر: أن ما رأيناه ليس سوى أثر جانبي لمرض سياسي عميق. مرضٌ يلتهم الدولة من الداخل، ويحوّل الوطن إلى مختبر للخراب، ويجعل من السلطة سلوكاً لا علاقة له بالمجتمع أو التاريخ أو الإنسان. إن ما حُفظ بالصوت والصورة ليس سوى جزء صغير من القبح، لكن القبح الأكبر محفور في ذاكرة السوريين، لا في ذاكرة الهواتف.
بهذا المعنى، ليست التسريبات “فضيحة”، بل تذكيراً. تذكيراً بأن الحاكم الذي يبتسم فوق الركام ليس شاذاً في لحظته، بل هو انعكاس لنسق عالمي من الطغاة الذين عاشوا داخل رؤوسهم وتركوا شعوبهم تموت خارجها. وتذكيراً بأن المرض النفسي حين يتحالف مع السلطة المطلقة ينتج شكلاً من الحكم لا يختلف كثيراً عن أكثر لحظات القرن العشرين ظلاماً. وتذكيراً بأن سوريا، مهما طال الزمن، لن تستعيد عافيتها ما دام هذا القبح يتكلم باسمها.
ليفانت: شيار خليل
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

